المقامة الإذاعية

وذات صباح سعيد، أخرج سلمان مذياعه الجديد، وقد كان اشتراه من السوق يوم الأحد، إذ شعر يوماً أنه لا يعيش في البلد، فهو كما عهدناه يمشي بمحاذاة الجدار، ولا يدري ما يجري خارج زوايا الدار، وليس عنده فيسبوك ولا تويتر، ويعتبرهما ضرباً من البطر. إلا أنه في جلسة ودية، سمع عن البرامج الصباحية، وما تحتويه من أنواع الأغاني، وأخبار القاصي والداني، فوجدها فكرة رزينة، أن يعرف أخبار المدينة

وما أن ضغط على زر التشغيل، حتى سمع صوتاً يشبه الصهيل، وما كانت إلا ضحكة رقيعة، من فتاة يبدو أنها مذيعة. ثم أخذت تتحدث على مهل، وهي تصف النساء بالجهل، وتندب حظ الرجال البائس، وتنعت كل ثلاثينية بالعانس. ثم ذكرت إحصائية مجهولة، حول صفات الرجولة، مفادها أن نصف الرجال يعتقدون في الخفاء، أنهم يفوقون زوجاتهنّ في الذكاء. فما كان من سليمان إلا أن قال بلا عناء: بوركتنّ في الفطنة والفهم، إذ أقنعتنّ أزواجكنّ بهذا الوهم

ولما سئم من هذا الكلام، حرّك المحطات إلى الأمام، فسمع مذيعة تتحدث عن فستان أحلام ، وكأنها استفاقت للتو من المنام، حتى كاد صوتها يصيبه بغفوة، فراح يصرخ: هاتوا لها بعض القهوة. وما لبث أن غير التردد، باحثاً عن بعض التجدد. هنا صدح صوت بأنها أخبار العالم، فاستبشر خيراً، ولم يجد في الأمر ضيراً، فلا يمكنه العيش للأبد في فقاعة، وعليه التحلي ببعض الشجاعة، فاستعد لسماع أخبار الحروب، والضحايا في الشمال والجنوب، وآخر أخبار الحملات الرئاسية، ونتائج البعثات الدراسية، إلا أن المذيع اكتفى بخبر خطير، عن كيم كارداشيان في ثوب قصير

غيّر المحطة من جديد، لعله يجد ما هو مفيد، وعلى إحدى الأمواج، سمع صوت مذيعة مغناج، تتحدث إلى خبير بالأبراج، فراح يعدد الصفات والنعوت، ويوزع الأرزاق والبخوت: فالثور حائر في البرسيم، والجدي مستقبله وخيم، والجوزاء يعاني الكآبة، والقوس يغرق في الرتابة، أما برج الحمل، فليقطع الأمل…

ولما كان من برج الأسد، قرر إغلاق المذياع إلى الأبد، إلى أنه مرّ على محطة أخيرة، مختلفة الوتيرة، فسمع أغنية عن الوطن، أحيت فيه الشجن، فانتظر أخبار المتعطلين عن العمل، والمعتقلين من زمن، واستبشر خيراً واقتنع، بألا يتوقف عن السمع، حتى صدح صوت هادر، يهدد بالمخاطر، ويتحدث عن ضيوف، عددهم بالألوف، ثم يستقبل اتصالاً يحفل بالسباب، ويدعو إلى إغلاق الأبواب، فيقوم بالترقيع، ويتحول إلى حمل وديع، فيتصرف بفطنة، ويدعو إلى درء الفتنة، ثم ما لبث أن عاد للتهميش، وبالغ في التجييش، حتى ظنه يتعاطى الحشيش، وفي غمرة هذا الصياح، شعر سلمان بأن الخطر قد لاح، فكتم الصوت المبحوح، ودخل إلى السوق المفتوح، وخلال لحظات نشر بين الإعلانات اليومية: مذياع للبيع، بداعي الحفاظ على القوى العقلية

Leave a comment